فمنذ بداية الخلق والإنسان هو المخلوق المٌحاكي للطبيعة بامتياز، لم يبتكر شيء، إلا وكان لما يحيط به اليد الأولى فيه، لم يستطع أن يخلق شيء من عدم، إنه استخدم المُسخرات له في بيئته وفي نفسه.
"وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفي السماء رزقكم وما توعدون (22)". سورة الذاريات
إنه المخلوق الذي علمه خالقه كيف يقرأ الحياة بمواقفها، ويتعلم دروسها، ويستفزه الفضول للاكتشاف، والحاجة للاختراع، فيحاكيها في كل ما يثير انتباهه، ويستفز فيه أعظم ما وُهب، عقله الذي ميزه به ربه عن باقي المخلوقات، ولن يعمل هذا #العقل دونما قراءة للواقع، وللمواقف، والحياة، فيبدع في تقليدها، منذ نعومة أظافره، وهو يستثمر عقله في التقليد، فينبهر بنفسه
فإن أول الأوامر التي تلقاها #الإنسان من ربه، ليعي حقيقته، ويدرك ماهيته أن: "اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)". سورة العلق
فكيف ينسى كيف كان خلقه، حين انبهر بإنجاز ضئيل قد قلده، بفضل هِبات خالقه؟!
إن كل إنسان تيقن من ضرورة أن يتعرف على ذاته، وشرع في #البحث عن نفسه، وسعى لاكتشاف طريقه، لابد وأن وصل إلى تحقيق هدفه.
لذا احذر من أن يشتتك الفضول، أو تُنتزع النعم منك، بسبب تكبرك الجاهل، ولا تكن الغافل، الذي يضيع من يديه ثروة لن يعرف قيمتها الاإذا فقدها.
انتبه، اخشع باستمرار، إن #الخشوع علامة العلماء. "إنما يخشى الله من عباده العلماء" فاطر 28
أي أنه لا يخشى الله تعالى حق الخشية إلا العلماء الذين عرفوه حق معرفته .. فاتقوه .. والتقوى صعبة إلا على من عرف الله وعبده حق العبادة، فالغاية من عبادتك له أن تتقيه، فتفلح " ومن يتق الله يجعل له مخرجا" (2)
"ومن يتقِ الله يجعل له من أمره يسرا"(4) "ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا"(5) سورة الطلاق...
"ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون" (103)
"ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" (177) سورة البقرة
استبصر بقلبك لا بعينيك، تأمل، كن يقظا، لا تغفل، لا تنم فيما أنت واقف، أو تمشي، بل اجعل أعلى لحظات يقظتك في نومك الطبيعي، هناك تأتيك الرسائل الواضحة من الخالق، نتيجة لخشوعك العالي، كاستجابة لذبذبات تركيزك الشديد في صحوك، إن الانشغال بتوافه الدنيا أخطر سارق يحرمك نعمة الوعي، الوعي الذي يأخذك للجنة قبل أن تغادر الدنيا.
إن تجاهلك لسبب وجودك في الحياة، هو سر ضياعك، إن انتباهك مشتت عن الله، لأنك منهمك فيما لا يعنيك، وما يعنيك لو تدري أعظم وأهم وأقرب.
لا تسمح لانشغالك في حياة الآخرين أن يحرمك نعمة التركيز في رسالتك، إنه التطفل الخبيث الذي يغرقك في حسرات، وإخفاقات، ويوقعك في شراك الحسد، وربما المكائد، إنه السم الذي يجعل القلب فاسد، فأنت لست مخلوق لمراقبة الآخر، أو لتقيم سلوك وتصرفات، أو تحكم على الآخر. لأنك باختصار لا تعلم، فأنت لست إله، علمك محدود، وجهلك أكبر مما تظن.
إنك مخلوق لتراقب آيات الله وتتعلم، وهذا لن يحدث إن انغمست في تتبع عورات، إخفاقات، وحتى إنجازات الآخرين، إنه أشبه بالغرق في الوحل، والوحل هنا هو الفراغ، الذي يتسع من حولك ويبعدك عن الحقيقة، ويعدم ثقتك بنفسك، ويلوث بصيرتك الشفافة، التي تحتاجها لرؤية حكيمة واضحة.
فلا يمكن أن تتجسد الحقيقة أمامك جلية، إلا في الخشوع مع الله، في أن تعبده قبل الصلاة وبعد الصلاة، وبين كل #صلاة وصلاة، وأن لا تحصر عبادتك كلها في الصلاة وحدها، أن تقف وتكرر #الآيات القرآنية بلا خشوع، أن تركع، وتسجد دونما وعي في اللحظة، إن الصلاة صلاة قلب، وروح، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له، فما الحركات إلا صورة تعبيرية قد يزيفها الإنسان دونما شعور، وقد تصدق حين تجسد طاقة خشوع القلب عليه وتهيم الروح في تلك اللحظات بلذة عشق واهبها في هذا الجسد الساجد تقربا لله.
أُمرت بالصلاة لتشحن روحك بطاقة العبادة، فأنت لن تعمل باستقامة دونما صلاة حقيقية تبدأ من الخشوع، إن الخشوع هو روح الصلاة، كما أن لا حياة للجسد بدون روحه، لا حياة للصلاة بدون الخشوع، ومن أبرز معاني الخشوع هو السكون، السكون نتيجة حتمية للتركيز، الذي هو أيضا من أهم معاني الخشوع ولن تستطيع التركيز في رسالتك الحياتية التي خُلقت من أجلها إلا بالخشوع الذي هو مجموع التميز مع السكون لتصح صلاتك المكتوبة.
"أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78) ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)". سورة الإسراء
ومع أهمية هذا أيضا تذكر أنك مخلوق لتكون خليفة الله في الأرض، الصلة مع خالق هذا الكون تتعدى حدود الركوع والسجود، لتتسع لتشمل ما يحيطها، هي
لا تتخطاها، وإنما تشملها، وتضمها ضمن خطتها .. فهناك صلاة محددة بمواعيد مكتوبة لتشحن بها روحك، لتتمكن من العبادة الحياتية، بكامل طاقتك المستمدة من خالقك، لتجيد العطاء النقي، والاتقان الحقيقي، الذي يتمخض عن التقوى.
فالصلاة تبدأ بالاتصال الروحي الذي أي انفصال فيه هو كارثة تحل بهذا المخلوق، كمن يفصل التيار الكهربائي عن جهاز لا يعمل إلا بالكهرباء، الاتصال الإنساني بالإله يتكامل من كل الجوانب الذهنية والعاطفية والنفسية التامة وباستدامة مع غاية العبادات، وهي التقوى ..
سيطرح أحدهم سؤال: " وهل أنا متفرغ على الدوام لأنشغل باتصال دائماد مع الله. ألا يجب أن أتنفس، أنام، آكل، أتعامل مع والديَّ، أخوتي، جيراني، زملائي، أدرس، أعمل، أتزوج، أنجب، أطبخ، أقود السيارة، أبني، أسافر، أحتفل، أناقش، أضحك، أبكي، ألعب، أغضب، أحب، أكره، أرفض، أقبل، أخطئ، أندم، أو أعاند، أخسر، أو أربح؟!"
سأجيبه: إن انشغالك بالله عن الدنيا، هو سر تسخير الدنيا لك، إن عبوديتك المطلقة له، كفيلة أن تجعلك حر، غير مقيد، ولا مُلاحق، ولست مُطارد، قادر على أن تأخذ قراراتك بيقين، متمكن من تنظيم أولوياتك واستثمار وقتك.
وأن تطمئن في زحمة ما أسلفت من سرد حقوق تُطالب بأن تنشغل بها لأنها ضرورات حياة، فقد وعدك خالقك أن يكافؤك على كل من التنفس، والنوم، والدراسة، والعمل، والزواج، والإنجاب، والعلاقات، إلخ ... وحتى الخطأ له ثواب حين تتوب. بشرط أن تعش كل ما سبق بالتقوى، التي هي جُل العبادة.
أنت تفوز دائما ما دمت في محراب عبوديته جل وعلا، التمتع بوالديك عبودية، التمتع بتربية أولادك عبودية، التمتع بسعيك في دراسة أو عمل عبودية، فحتى تمتعك بشهوات الحياة تُثاب عليها، إن خشعت مع الله فيها، ووضعتها في ميزان ضميرك التقي، قاتقيته، واخترت حلالها لوجه الله، وفي هذا الاختيار عبودية، وهذه العبودية صلاة .. إن أحببت فأحبب في الله، وإن كرهت فامتثالا لأمر الله، وإن توجهت فإلى الله، وإن ابتعدت فعن كل ما يغضب الله .. هذه هي التقوى قمة العبادة.
سُأُلت كثيرا من بعض القراء: " الكلام سهل"
أؤكد لكم ذلك، ولسنا ملائكة، ونحن معرضون للخطأ، لذلك خلق الله التوبة، والمغفرة، ومثلما فطرنا على الخطأ، فله حكمة في ذلك، يعلمها هو سبحانه وتعالى، ويعلمك إياها من خلال القرآن ..
"الكلام سهل" صدقتم، ولكن الفعل أيسر من الكلام على من تدبر القرآن، فصار بفضلل تطبيقه، بأخلاقه قرآن يمشي على الأرض، آية تعيش بين الناس، رسول من رسل الله، قدوة.
لم أقل اقرأ القرآن، بل تدبره، المتعة في تدبره، العلم في تدبره، الإدراك في تدبره، الوعي، الحكمة، الخشوع، التقوى، التطبيق، والنجاة.
القليل من القرآن مع التدبر، أفضل من الكثير مع التغافل عن وصاياه والتجاهل لأوامره.
مثل القليل من الصدقة مع التقوى أفضل من كثيرا مع الرياء
إن القرآن دليلك، ومرشدك، ومعلمك، ومرجعك، وخارطتك النفسية والمحيطة، وآية خالقك لك، لترجع إليه بقلب سليم، إن مفاتيح السعادة فيه، وبلوغ الحكمة به، وعرفت من تدبر في آياته كيف أشرق، وفاز .. ولم أرَ أو أسمع عن الذي أهمله إلا وقد خسر وخاب، وليس السباق فيه سباق سرد كلمات، وترديد آيات، أو حفظ، إنما سباق تدبر، وارتقاء وعي، وتطبيق تقي حكيم.
إن الله وحده وهبك الحياة، أسبابها ومقوماتها، وقوانينها، لهو الأحق أن تُعاش تلك الحياة في عشق واهبها.. والعشق للمعشوق عبودية أزلية، قبل الخلق الأول لك وبعد الخلق الثاني، عشق دائم الوجود لا بدء له، عشق لا يكون مسبوقًا بالعَدَم، فالله تعالى أزليّ.
لأن اتصالك بخالقك بدأ قبل أن تُخلق، ولن ينتهي مع موتك، فالله حي، وهو يبدئ الخلق ثم يعيده، لسوف تعود وما زلت متصل به دونما انقطاع....
لا تفصل التيار، لا تبتعد، فتضل، فتخسر، أنت مخلوق لا يحيا إلا بالاتصال بخالقه
الصلاة انصهار، هل رأيت منصهر ينفصل؟
إنه النداء الذي تسمعه منذ جئت إلى الدنيا ...
"حي على الصلاة، حي على الفلاح".
لا يمكن للفلاح أن يحدث، إلا بحدوث الصلاة... والصلاة الأعظم هي التقوى
التقوى في كل من جوانب الحياة، في النفس، والآخرين، والأعمال .. أقسم بالله من وصل لدرجة التقوى تفوق وفاز وحاز الدنيا والآخرة
قال تعالى: " إن الله يحب المتقين" سورة التوبة
أليس حب الله فوز
وقال تعالى: " فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون". سورة المائدة
أليس الفلاح تميز
وقال تعالى: " والآخرة عند ربك للمتقين".
سورة الزخرف
قال تعالى؛ " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون" سورة الزمر
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: فيُبَلِّغُ الشاهدُ الغائب)
د. هبة جودة
24/1/2014
مقتطع من مقالي/ لماذا الصلوات الخمس لا تكفي؟!